محمد عبد الرحمن )نقلا عن الكتاب الذهبي)
قبل عامين فقط كان
السؤال المزمن الذي يرافق الإحتفال بذكرى إنتصارات أكتوبر، هو متي تجسد السينما من
جديدا بطولات العابرون لتحرير الوطن ؟، القصص لا تنتهي وما قدمته السينما في
السبعينات ليس كافيا لا على مستوى المحتوى ولا على مستوى التقنيات التي تطورت بشدة
وجعلت الجيل الجديد يتعامل مع الأفلام القديمة بأحكام لم تلجأ إليها الأجيال
السابقة، ليأتي النجاح الطاغي لفيلم الممر ومن بعده مسلسل الإختيار ليذهب بالسؤال
المزمن إلى الأرشيف، وتنسد أخيرا الفجوة الزمنية التي جعلت أفلام أكتوبر من حيث
الكم أقل بكثير بالمقارنة بعظمة وتاريخية
الحدث، لكن سؤالا آخر خرج وفرض نفسه بقوة، وهو ما الذي ستقدمه السينما والدراما في
المرحلة المقبلة حتى لا تعود الفجوة وتفرض نفسها من جديد.
لماذا توقفت أفلام
أكتوبر كل هذه السنوات وكيف وبأي شكل عادت، بشكل شخصي سعيد أنني أكتب لأول مرة عن
هذه المناسبة وقد وجدت جديدا أقوله، فمعظم الصحفيين الذين دخلوا مجال الصحافة
الفنية منذ بداية التسعينات نفذوا التحقيق القائم على السؤال منتهي الصلاحية
المشار إليه في المقدمة أكثر من مرة، وربما كانوا يعيدون نشر التحقيقات كما هي في
كل سنة مع بعض التغييرات، كانت التحقيقات تقوم على استعراض أبرز الأفلام ثم الاتصال
بالمخرجين والنقاد وسؤالهم عن أهمية تقديم أفلام جديدة ولماذا لا يحدث ذلك، غير
أنه إحقاقا للحق كانت هناك أفلاما جديدة فعلا خصوصا في التسعينيات، لنقل أن
الثمانينات شهدت تراجعا واضحا بعد دفعة من الأفلام التي أعقبت الحرب في سنوات ما
بعد العبور، لكن في التسعينات بدأت العجلة تدور من جديد لكن على استحياء أو بعيدا
عن أرض سيناء نفسها .
الطريق إلى حكايات
الغريب
تدور العجلة على
استحياء المقصود بها هنا أن الأفلام كانت قليلة ومتباعدة وافتقدت للطابع السينمائي
ومعظمها كانت تلفزيونية، وأبرزها على الإطلاق "الطريق إلى إيلات"، الذي
دار عن عملية اغراق المدمرة الاسرائيلية إيلات بعد أربعة أشهر من النكسة وتحديدا في
أكتوبر 1967، أما بعيدا عن أرض سيناء فمثلا فيلم عظيم مثل "حكايات
الغريب" لا يدور عن الحرب نفسها وإنما عن قصة سائق سيارة مؤسسة صحفية مفقود
خلال حصار السويس الذي أعقب العبور، على نفس الخط أفلام مثل "يوم
الكرامة" الذي عرض عام 2004 دار أيضا في معركة حربية لكن الفيلم نفسه لم يحقق
أي نجاح، وفيلم "حائط البطولات" عن كفاح قوات الدفاع الجوي تم تعطيل
عرضه لمدة 12 سنة، بالتالي بقت أفلام السبعينات هي المرتبطة بحرب أكتوبر وبأرض
سيناء بشكل مباشر، وإن خرج عام 2016 فيلم بعنوان "أسد سيناء" عن بطولة
أحد جنود المظلات خلال الحرب لكنه فنيا وعلى مستوى اختيارات الأبطال لم يحقق
انتشارا جماهيريا.
إذن الفجوة ليست
ممتدة منذ نهاية السبعينات وحتى عرض فيلم الممر، تخللت تلك الفترة بعض الأعمال،
لكن اعتبرت الفجوة طويلة ومستمرة قرابة ثلاثين عاما، لأنه باستثناء" الطريق
إلى ايلات" لم تظهر أعمال بها معارك حربية نجحت في جذب انتباه الجمهور خصوصا
الأجيال الأحدث.
الكم وحده ليس
المشكلة
لماذا أركز مرة
أخرى على الأجيال الأحدث، لأن الأزمة لم تكن فقط في أن أفلام السبعينات قليلة ولم
تغطي كل البطولات، فحتى لو شهدت تلك الفترة انتاج عشرين فيلما مثلا، لم يكن يعني
ذلك أن نخرج ونقول كفى أفلاما عن حرب أكتوبر، لأن الكم لم يكن وحده المشكلة بل
الكيف، فمع تطور تقنيات صناعة السينما فيما يخص الجرافيك والمؤثرات الصوتية ومع
استهلاك اللقطات الأرشيفية للحرب في الأفلام الأولى بات على صناع السينما إدارك أن
الجمهور المولود بعد العبور بعشرة سنوات وأكثر نشأ على متابعة السينما الغربية
التي تقدم أفلام حربية على أعلى مستوى وبتطور مستمر، بل إن ألعاب الحرب
الإلكترونية التي يمارسها المراهقون على هواتفهم النقالة تقنياتها مرتفعة للغاية،
بالتالي لا يستقيم أن تطالبا شابا في العشرين من عمره يشاهد أفلام ستيفين سبيلبرج
ويلعب بابجي أن يتفاعل مع فيلم "الرصاصة لا تزال في جيبي" إنتاج عام
1974، هذا الفيلم الجميل الذي أبدعه فنانون مصريون في وقت قياسي ودخل قلوبنا في
حينه، يمكن أن يتابعه الجيل الجديد ليعرف الفرق بين كواليس انتاج الأفلام زمان
وكيف كان صانعوها يبذلون مجهودا مضاعف بدون إمكانات الجرافيك وبين الأفلام الجديدة
التي تقدم بطولات مصرية لا تنتهي، هناك المعضلة أن الطرف الثاني في المعادلة كانت
غائبا، فتعرضت أفلام السبعينات لانتقادات باطلة من هؤلاء الذين يطبقون معايير
الزمن الحالي على أفلام انتجها السينمائيون قبل 4 عقود مع أن كل من هذه الأفلام
يحمل بداخله جماليات نادرة التكرار نتجت عن مصداقية شديدة تعامل بها صناعها في ذلك
الحين فلم تكن النية تجارية أبدا في تلك المشروعات.
بجانب
"الرصاصة لا تزال في جيبي" ، كثيرون يعتبرون "العمر لحظة" أحد
أفضل أفلام الراحلة ماجدة الصباحي والذي منح البطولة لأول مرة للممثل المظلوم
الراحل محمد خيري، الفيلم الذي أكد أهمية الصحافة – الميديا بلغة هذه الأيام- في
دعم الجيش، وكيف ترك الصحفية المحبة لبلدها الرافضة للهزيمة حياة السهر والترف
لزوجها وقررت أن تعيش على الجبهة لنعرف منها ماذا يشعر الأبطال وكيف يعانون بين
عطشهم للعبور والنصر وقلقهم على أبنائهم وأسرهم خصوصا في حال استشهادهم.
ثلاثية محمود
ياسين
وبالعودة لمحمود
ياسين المنصف باعتبار البطل الأكثر تكرار في أفلام الحرب، فهو تصنيف يستحقه وأي
مخرج في تلك المرحلة بالتأكيد كان يرى فيه نموذج للضابط والجندي المصري بجانب
آخرون بالطبع استحقوا هذا الشرف، قدم ياسين فيلم "الوفاء العظيم" وفيلم
"بدور" وكلا الفيلمين اهتم كثيرا باظهار حال الجبهة الداخلية ودعمها
التام للجنود على خطوط القتال، لنعترف طبعا أن الإمكانات الفنية لم تكن تسمح
بتقديم فيلم حربي كامل كما شاهدنا في الممر عام 2019 ، لكن القضية الأخرى كانت في
أن الشعب في تلك المرحلة سعيدا بالنصر بشكل كلي وأن البطولات الفردية لم تظهر إلا
تدريجيا، وهو ما سنتناوله بالتفصيل عندما نصل بعد قليل لما يجب أن تصبح عليه
الدراما العسكرية في المستقبل القريب.
فيلم "أبناء
الصمت" لنور الشريف وميرفت أمين أحد الأفلام التي لا يمكن المرور عليه مرور
الكرام، فقد عشنا من خلاله مع الجنود في خنادقهم وكيف صبروا ست سنوات كاملة حتى
يمحوا عار هزيمة لم تحدث بسببهم، والفيلم استعرض أيضا أن الحرب لم تكن ضد العدو
فقط، وإنما ضد كل نفعي ومستغل داخل المجتمع، وهي بالمناسبة تيمة تكررت في معظم
أفلام حرب أكتوبر .
نقاط التحول
دعونا لا ننجرف
للأرشيف القديم كثيرا، فكلنا نحفظه عن ظهر قلب، ونذهب إلى نقطة التحول الثنائية،
التي فتحت الأفق من جديد لتقديم دراما عسكرية، سينمائية كانت أم تلفزيونية تناسب
بطولات الجيش المصري التي لا تنقطع، فإذا كانت القضية قد ظلت لسنوات طويلة تدور
حول بطولات جيش أكتوبر، فمنذ 7 سنوات وأكثر يسطر أبناء أبطال العبور بطولات أخرى
للحفاظ على الأرض التي حررها الأباء، لكن البطولات هذه المرة ليست في حرب نظامية
وإنما حرب من نوع آخر مع جماعات تكفيرية هدفها زعزعة الإستقرار وتغيير معطيات
السياسة .
يونيو 2019 كانت
نقطة التحول الأولى، العرض الجماهيري لفيلم "الممر" في ذكرى نكسة يونيو،
فيلم حربي في سباق عيد الفطر هل ينجح، فعلها فعلا ونجح وبقى في دور العرض حتى موسم
عيد الأضحى ثم تم طرحه عبر منصة واتش آيت وبعدها بفترة بسيطة عرض تلفزيونيا في
ذكرى حرب أكتوبر السادسة والأربعين ليتابع المصريون والعرب لأول مرة فيلما جديدا
عن حرب الاستنزاف وأيا كان الجدل حول الفيلم وأداء الأبطال، فإن الاتفاق كان واضحا
حول أهمية التجربة والمستوى المرتفع للجرافيك والمؤثرات البصرية، لتبدأ بعد ذلك
بشهور نقطة التحول الثانية، والتي تمثلت في عرض مسلسل "الإختيار" عن
بطولات الشهيد العقيد أحمد صابر منسي الشهير بالأسطورة والذي نال الشهادة في يوليو
2017 في معركة كمين البرث الشهيرة، ليفاجئ الجمهور الذي كان ينتظر دوما فيلما عن
الحرب مدته ساعتين بمسلسل حربي مدته 22 ساعة، وأيضا أيا كان الجدل حول التفاصيل
فإن الحدث فنيا ونفسيا ترك أثرا لا يمكن اغفاله وأغضب الكثيرين خارج البلاد الذين
كانوا يمنون أنفسهم بأن لا تقوم السينما والدراما بالدور المنوط بها من أجل رفع
الروح المعنوية وتعريف الشعب ببطولات الجيش المصري قديما وحديثا.
ماذا يجب أن يحدث
إذن بعدما سدت الفجوة أخيرا؟، فيلم ومسلسل في عام واحد، من المفترض أن نتابع في
رمضان المقبل جزءا جديدا من الإختيار لكنه سيكون مخصصا لبطولات الشرطة المصرية حسب
المتاح من معلومات، أي أن الطريق بات مفتوحا لكن هل يلتقط المبدعون الخيط وينسجون
دراما مناسبة للمتغيرات التي شهدها الإنتاج الفني في السنوات الخمس الأخيرة .
الوسائط المتاحة
دعنا نقول أن هناك
ثلاثة وسائط باتت الآن متاحة، بعدما ظلت الحصرية للسينما قرابة أربعة عقود،
الدراما دخلت على الخط، الجهات الإنتاج بعد نجاح الإختيار لم تعد تخشى من تقديم
ثلاثين حلقة دفعة واحدة، بل أتوقع زيادة المحتوى الحربي بالمقارنة بالمحتوى
الإجتماعي داخل نفس المسلسل، في الإختيار على سبيل المثال كان ارتباط الجمهور أكبر
بالمحتوى الخاص بالمعارك أو الذي كان يدور في كواليس وحدات الجيش المصري وليس
منازل الأبطال، وهو أمر بالمناسبة متعارف عليها في السينما الحربية، أفلام مثل
"انقاذ الجندي رايان" و" 1917 " كل مشاهدها تقريبا في أرض
المعركة، الجمهور ليس في حاجة ماسة لمشاهد الأبطال مع أبنائهم وعائلاتهم، لكن
الدراما التلفزيونية ستحتاج المزيد من الوقت للخروج من هذه المعادلة، فيما السينما
خرجت فعلا والدليل أن فيلم "الممر" كانت 80 % من أحداثه على الأقل في
أرض سيناء، ولا يذكر الجمهور خارج ذلك سوى مشهد السنترال ومشهد البطل أحمد عز مع
زوجته وجسدتها هند صبري، والمطلوب أن تسير الأفلام السينمائية على نفس المسار فيما
هو قادم، وأن يتم اختيار قصص تناسب مدة الفيلم التي تتراوح ما بين 100 إلى 150
دقيقة، أما في الدراما فالمهمة أصعب وهي أن تملأ الثلاثين حلقة بأحداث حربية دون
الحاجة للعودة للمدن.
حسنا، تكلمنا حتى
الآن عن وسيلتين، السينما والدراما، فما هي الوسيلة الثالثة، قبل أن أذكرها أقول
أنها بمثابة الهدية لصناع الدراما الحربية في شكلها الجديد، منصات المشاهدة
المدفوعة مسبقا وفي مقدمتها واتش إيت، تتيح لصناع الدراما العسكرية مجالات أوسع
للحركة، فمعظم مسلسلات تلك المنصات تقع ما بين 6 حلقات إلى 15، والمتوسط الأكثر
تكرار هو عشرة حلقات وربما أقل، وكل حلقة مدتها ما بين 40 إلى 50 دقيقة، أي أن
العمل الذي لا تزيد حلقاته عن عشرة سيشاهده الجمهور في قرابة ثماني ساعات، وهو ما
يتيح تقديم معارك وبطولات لا يكفيها فيلم وفي نفس الوقت لا تحتاج لمسلسل ثلاثين
حلقة، كما أن المتابع من الجيل الجديد لا ينتظر موعد العرض الرمضاني يوميا، بل قد
يشاهد الحلقات متتالية في جلسة أو جلستين على أقصى تقدير .
بناء على ما سبق، ونحن
في انتظار عدم عودة الفجوة مرة آخرى، يمكن أن نقول من خلال هذا التحليل، أن النجاح
الذي حققه فيلم الممر ومسلسل الإختيار فتح الباب أمام عودة لا تنقطع للدراما
الحربية، لكن هذه المرة يجب على صناع الأعمال والمشرفين على تنفيذها من المختصين
مراعاة أن تناسب القصص المعروضة الوسائل الثلاثة، فما يصلح للسينما قد لا يصلح
للتلفزيون وبالتأكيد هناك قصص تصلح للمنصات المدفوعة مسبقا وحسب، وهي التي تدور
حول بطولات لعمليات تحدث في نطاق زمني محدود، وليست ممتدة لأسابيع وشهور، إلا لو
خرج المسلسل على عدة أجزاء وهو ما يمكن أن يحدث لو أقبل الجمهور على الجزء الأول
بشغف .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق