الاثنين، 27 يونيو 2022

بطلوع الروح.. درس في براعة الاستهلال


 


نقلا عن مجلة "صباح الخير"

تضع مسلسلات الخمس عشرة حلقة وأقل مؤلفيها أمام اختبار صعب، فالمؤلف مطالب بالدخول في الموضوع مباشرة، والتعريف بالشخصيات وخلفياتها باستخدام علامات وإشارات محدودة وذات دلالة ناصعة في الوقت نفسه، حتى تبدأ الأحداث وتتفاعل الحبكة قبل انتهاء الحلقة الأولى، وإن لم يفعل يفقد الجمهور ارتباطه بالتسلسل الدرامي. وقد تجد أحدهم ينصح الآخر بأن يبدأ المشاهدة من الحلقة الخامسة فما سبق غير مهم. هذا "المطب الدرامي" خرج منه سالمًا محمد هشام عبية مؤلف مسلسل "بطلوع الروح"، مستفيدًا بالقطع من قدرات مخرجة في حجم كاملة أبو ذكري على تحويل الإشارات المكتوبة على الورق إلى علامات مرئية يستمتع المشاهد وهو يربط بينها، استعدادًا للتعايش مع الشخصيات وإدراك المفارقات التي ستجمع بين كل شخصية وأخرى، دون الإحساس بأن فهمه للموقف برمته كان يحتاج لمزيد من التمهيد.


النصف الأول من الحلقة الأولى من المسلسل الذي يجمع منة شلبي وأحمد السعدني ومحمد حاتم، يمكن اعتباره درسًا بليغًا في براعة الاستهلال الدرامي. المشهد الافتتاحي الذي يبدأ في صيف 2014 نرى فيه الزوج "أكرم" يدخن ويشرب الكحوليات وهو يشاهد فيديوهات لمعاناة فئة من المسلمين في مكان ما بالعالم، لنعرف بنعومة أن "أكرم" تخلص لاحقا من الكحوليات والمخدرات عبر استقطابه من أحد المتشددين، لكنه لم يمتلك الشجاعة الكافية لإبلاغ زوجته على مدار ثلاث سنوات، حتى أنه عندما أبلغها فعلا ظنت أنه عاد للمخدرات مرة أخرى. هكذا قدَّم "عبية" أحد الروافد الأساسية لاستقطاب الداعشيين الجدد، التائهين في حياتهم الخاصة، معدومي الشخصية، الذي ربما يشعر أنه لا يستحق زوجته ويريد أن يثبت استحقاقه بالتحول إلى قائد.


مع الانتقال لفبراير 2017 تعمدت كاملة أبو ذكري إطالة مشهد النيل المجاور للفندق الذي تعمل فيه "روح" ليس من أجل القول بأننا في مصر، ولكن لتقديم الدولة المستقرة المعمورة في مقابل الدولة التي سيهرب إليها "أكرم" وكيف أن روح ستجد نفسها رغما عنها في عالم آخر لا فكاك منه إلا "بطلوع الروح". وعلى مستوى الجمل الحوارية عكست جملة مثل "أنا هخطفك أسبوع في تركيا" نية الزوج الحقيقية، فلم يقل لها سنسافر أو نطير أو نستمتع، بل استخدم المؤلف تعبير الخطف هنا ليكشف ما يفكر فيه العقل الباطن للشخصية، ثم جاء ظهور "عمر" أحمد السعدني في "غازي عنتاب" ليكشف أن الموضوع أكبر من استقطاب متشدد لآخر مهتز للانضمام إلى داعش، وإنما شهوة "عمر" تجاه زوجة زميله تظهر من أول لمسة يد في مشهد المطعم وتكرارها مرة أخرى، لتقول لنا إن أزمة "روح" لا تتلخص في استقطاب زوجها، وإنما في أن رجلا كانت تعتبره "الطويل الرخم" في أيام الدراسة، لم يفتأ يفكر بها ويريد امتلاكها بأي ثمن.


سافر الزوجان وطفلهما. انبهرت الزوجة بمدينة "غازي عنتاب" وتجاوزت عن الاختيار المستغرب من زوجها، لكننا نراه يعنف أحدهم لأنه التحم بالطفل الصغير، إشارة أخرى تمهد لنوعية المرض النادر الذي يعاني منه الطفل والذي سيظهر بوضوح في الحلقة الثانية، إذ يجب على الطفل ألا يصاب بأي جرح، والأب يعرف ذلك جيدًا ومع ذلك يذهب به إلى داعش، تناقض يدفعنا لاحقا للحكم على الشخصية بالأنانية، هو يخاف على طفله لكنه لا يوفر الأمان الكافي سعيا وراء شعور مزيف بالأهمية ينقص الأب. المدينة نفسها حوَّلها صناع المسلسل إلى دلالة على الدور التركي في صناعة داعش، والدليل تسهيل دخول المنضمين الجدد إليها. ظهور صديق الأب أيمن عزب كان مهما ليس فقط لدوره لاحقا في استعادة البنت وزوجها، ولكن لأن إقامته في تركيا أعطت مصداقية للصورة التي نقلها للزوجين، سافر 12 ساعة للوصول إليهما في دلالة على كون المدينة حدودية ما يعزز غرابة اختيار الزوج لها، حديثه عن كونها أرض سورية بالأصلي وكيف حوَّلها الأتراك إلى مخلب في جسد الدولة السورية بدعم الدواعش، وتاليا كيف استغل سكان المدينة في بيزنس استعادة المخطوفين.


قبل مشهد المواجهة بين روح وأكرم الذي أكمل تاريخ الجفاء العاطفي بينهما، كان هناك مشهد ذا دلالة خاصة حيث حدوتة قبل النوم من الأم لطفلها، والتي تم اختيارها بعناية أيضًا. نسمع روح تروي لسيف كيف انتصر سوبرمان على الأشرار وطردهم من المدينة، فيما هي بعد قليل ستجد نفسها في مكان مليء بأسوأ أنواع الأشرار، فيما تعبر عن نقطة ضعفها الوحيدة بأن تظهر اسم سيف قبل أكرم وهي تطلب من والدها الدعاء، تمهيدا لخضوعها التام لما سيمليه عليها زوجها المختفي في اتصال شهد ذكر أول اسم أجنبي في الحلقة، السائق "سويدن"، ليكون الباب الذي يقدم منه صناع المسلسل دولة داعش متعددة الجنسيات والهويات، هؤلاء الذي لم يجمعهم سواء الطموح الكاذب بالحاجة للتميز والاستقلالية حتى ولو دمروا دولا وأزهقوا أرواحًا وظلموا سيدة مثل "روح"، وجدت نفسها أسيرة بحثا عن ابنها، في مهمة لن تنتهي على خير إلا "بطلوع الروح".

ليست هناك تعليقات: